كـلمــة الـعــدد
إدارة حقوق اإلنسان، التعدد المؤسساتي وتحدي النجاعة
لا شك أن دستور 2011 كرس حقوق الإنسان بشكل جلي، ونص على إحداث مؤسسات جديدة وإقرار مكانة دستورية لأخرى قصد تعزيز أدوارها في النهوض بهذه الحقوق وحمايتها. وقد جاء ذلك كتتويج لانخراط المغرب في دينامية دولية
جسدتها المصادقة على جل الاتفاقيات والعديد البروتوكولات الاختيارية الملحقة بها كتعبير عن إرادة سياسية للدولة في هذا المجال، وإبراز مكانتها بالنسبة للقانون الوطني. وقد تواصل ذلك مؤخرا مع إيداع أدوات التصديق في مارس 2022 على
البروتوكولين الاختياريين المتعلقين بالشكاوي الفردية الخاصين بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة والحال أن هذا الزخم من الالتزامات الدولية والبنيات المؤسساتية يطرح إشكالية التكامل والنجاعة والاختصاص خدمة للهدف المتوخى منها، خاصة إذا أضفنا إليها البنية المؤسساتية المحدثة ضمن الجهاز التنفيذي من جهة، والعالقة مع المؤسسة التشريعية من جهة ثانية
إن مسافة عشر سنوات تسمح لنا باستخلاص دروس أولية لقراءة ومساءلة ما تحقق وما بقي عالقا، مع ما يطرحه ذلك من أسئلة مرتبطة بوثيرة إعمال مقتضيات الدستور، ودرجة التراكم الذي تحقق، وإشكاليات الإضافة النوعية لكل هذه الترسانة، مع استحضار الضوابط الدولية المؤطرة لها وما أفرزته خلال هذه المرحلة من تساؤلات وأجوبة
وانشغالات وال بد هنا أن نذكر بكون مجمل هذه الآليات تؤطرها عدد من المبادئ والممارسات الفضلى الدولية التي دعت إلى إحداثها. وهكذا، فإن مبادئ باريس بقيت هي المرجع الأساسي الذي يجب الاحتكام إليه عند إحداث مؤسسات .1 وإذا كانت
2011وطنية ذات ولاية عامة أو خاصة بعض هذه المؤسسات في التجربة المغربية قد طورت الإطار القانوني المنظم لها على ضوء مبادئ باريس منذ اعتماد دستور
)المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الوسيط(، فإن القانون المحدث لهيأة المناصفة ومكافحة جميع أشكال التمييز المنصوص عليها في الفصل 19 من الدستور لم يعتمد هذا التوجه، بحيث أنها لا تتمتع بالاستقلالية المطلوبة ) فهي آلية خاضعة لسلطة قطا حكومي ( فضلا عن تركيبتها؛ وهذا ما يفقدها مقومات مؤسسة وطنية، مما جعل العديد من المنظمات تنتقد القانون المتعلق بها. ومعلوم أن هذه الهيأة لم تحدث إلى الآن. كما أن هناك عددا من المؤسسات لم يتم تجديد العضوية بها منذ سنوات.
إن إشكالية العضوية تطرح بدورها أكثر من تحدي. فإذا أخذنا مثال المجلس الوطني لحقوق الإنسان ضمن جل باقي المؤسسات، فإننا نجد أن التنصيص على تعدد جهات تعيين أعضائه )الملك، الحكومة، مجلس النواب، مجلس المستشارين( قد تبدو في الظاهر على أنها تحقق تعددية وتوسيع دمقرطة الانتداب، إلا أن الواقع والممارسة يكشفان عن كون تركيبتها تخضع لحسابات سياسية اعتمدت بالأساس على عنصر الموالاة، وتغاضت عن معايير العضوية المطلوبة من حيث المهارات المهنية والمعرفية في مجال حقوق الإنسان واستحضار مقاربة النوع وغيرها من العناصر المطلوبة والمنصوص عليها في مبادئ باريس، الأمر الذي أعطى تركيبة تضم حتى من لا علاقة بحقوق الإنسان، بل من تتنافى قناعته والجهة التي ينتمي إليها مع هذه الثقافة .2 وما ينطبق على المجلس والمرجعية التي تعتمدها الوطني لحقوق الإنسان ينطبق أيضا على عدد من مؤسسات الحكامة في هذا الباب بدرجة أو بأخرى. ومن جانب آخر لابد من الإشارة إلى أن إحداث الآليات الوطنية الثلاث )التعذيب، الطفل،
الإعاقة( داخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان يطرح النظر في وضعيتها ودورها ومدى مقروئية أدائها منذ إحداثها. ومعلوم أن تقارير هذه الآليات لا تصدر إلا بعد المصادقة عليها من طرف الجمعية العامة للمجلس وهو ما يطرح حدود استقلاليتها، الأمر الذي قد يسمح بالنظر إليها فقط كلجنة وظيفية داخل المجلس، كما أن علاقتها باللجنة الفرعية للوقاية من التعذيب ال تتم إلا « عن طريق رئيس المجلس متى طلب منها .4 والحال أن من بين ما تقوم به اللجنة ذلك » الفرعية طبقا لما تنص عليه المادة 11 من البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب هو « الحفاظ على الاتصال المباشر، والسري عند ،5 كما أن المادة 17 من اللزوم، بالآليات الوطنية » نفس البروتوكول تؤكد على إحداث « آلية وقائية وطنية مستقلة »، وتنص المادة 18 على استقلالها الوظيفي واستقلال العاملين فيها، وأن تتوفر في خبراء الآلية القدرات اللازمة والدراية المهنية، وإيجاد التوازن بين الجنسين وتوفير الموارد واعتماد مبادئ باريس عند إنشائها في ظل هذا النسيج المؤسساتي التعددي، يطرح
سؤال التكامل المفترض في مؤسسات الدولة لضمان تحقيق الأهداف المتوخاة من إحداثها، وذلك ما يستوجب توسيع التحليل والدراسة بخصوص كل منها. ولكن لا بأس أن نستحضر هنا التوترات التي أخذت أحيانا بعدا إعلام ا وسياسيا وتجاذبا على الملأ كما حدث بين حكومة السيد بنكيران والهاكا بخصوص دفاتر تحملات القطب العمومي، أو ما حدث مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص عدد من القضايا الخلافية مع الفكر المحافظ للحكومة، ناهيك عن مدى الأخذ في الاعتبار للأراء الاستشارية بصدد عدد من القضايا سواء من قبل السلطة التنفيذية أو التشريعية، وهو ما يستوجب توسيع تقييم هذا البعد رغم معالجته جزئيا في هذا الملف . وفي الأخير لا بد من الإشارة أيضا إلى تعطيل مقتضيات دستورية على رأسها الفصل 160
الذي يطرح ضرورة تقديم هذه المؤسسات لتقرير سنوي أمام البرلمان، وهو الأمر الذي لم يتحقق إلا مرة واحدة خلال كامل هذه الفترة، مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ليتم التغاضي عنه الحقا دون أدنى توضيح من أي طرف معني بالموضوع.
أما على مستوى الجهاز الحكومي، فإن تجربة المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان تدعونا إلى تفكير هادئ موضوعي لتلمس مدى نجاح التجربة وحدود ذلك. وهنا لابد من التذكير بأن إحداث مثل هذه الآلية الحكومية جاء كتوصية من الأمم المتحدة في سياق التقرير الذي أعدته المفوضية السامية لحقوق الإنسان سنة ،2012 وذلك نتيجة تزايد مصادقة الدول على الاتفاقيات والبروتوكولات في مجال حقوق الإنسان ومتطلبات تفاعل هذه الدول مع الآليات التعاقدية والخاصة المتعددة ومساطر
الشكايات الفردية بكل ما يطرحه ذلك من ضرورة تقديم الدول للتقارير الدورية والخاصة والجواب على الشكايات الفردية وتقديم تقارير الاستعراض الدوري الشامل وتتبع إعمال التوصيات والتفاعل مع الآليات الدولية والمنظمات غيرالحكومية وطنيا ودوليا ولا بد من التذكير هنا بأن بلادنا مدعوة إلى التفاعل المستمر، بموجب التزاماتها، مع التقارير الدورية والتوصيات الصادرة عن اللجن المختصة على إثر مناقشتها والتي تهم الاتفاقيات التسع الرئيسية، إضافة إلى البروتوكولات الثلاثة المصادق عليها ومساطر الشكايات الفردية، إضافة إلى الاستعراض الدوري الشامل ومتطلبات دورات مجلس حقوق الإنسان والتفاعل مع املساطر الخاصة وعددها 45 التي فتح المغرب الباب أمام العديد منها والشك أن هذا الكم الهائل سيتزايد مع التوجه
الإفريقي للمغرب، ومتطلبات الانضمام للآليات الإقليمية إضافة إلى التفاعل المطلوب مع الآليات الأوروبية ومع المنظمات الإقليمية والدولية غير الحكومية ضمن استراتيجية شاملة في هذا المجال بما تتطلبه من تكامل مؤسساتي مع احترام
اختصاص كل جهة. وقد تبين من خلال الدراسات المنجزة، أن الاضطلاع بهذه الأدوار يستوجب آلية دائمة خاصة بهذه الأعمال والمهام، تحقق تراكم الخبرة اللازمة لذلك قصد التفاعل الدائم مع مختلف الآليات الأممية بمهنية عالية وفي الآجال المحددة، مع تقديم الاستشارة والاقتراح لباقي المكونات الحكومية المعنية. ومن خلال اضطالعها بمختلف هذه الأدوار المتمثلة في تطوير العلاقات مع الآليات الدولية والإقليمية )الإفريقية مستقبلا بالنسبة للمغرب(، وتتبع التوصيات والالتزامات والعمل على دفع عجلة الملاءمة وبلورة السياسات العمومية اللازمة، تكون هذه الآلية في هذه الحالة قد عززت نظام حماية حقوق الإنسان، وتصبح بالتالي آلية أساسية في هذا المجال ضمن البناء المؤسساتي للبلاد. وقد كانت التجربة المغربية تقدم ضمن تقارير المفوضية السامية لحقوق الإنسان في هذا المجال من الممارسات الفضلى، رغم ما قد يطرح من مؤاخذات على مستوى نوعية العالقة وأشكالها مع الآليات الدولية، وخاصة مع المنظمات الدولية غير الحكومية ومقروئية دورها وعلاقتها بباقي المؤسسات وخاصة الحكومية ومحدودية البعد التواصلي في علاقاتها العامة . إلا ان توجه المندوبية إلى إدماج بعد الحماية بشكل مباشر وإعداد تقارير عن وضعية حقوق الإنسان في المغرب يدعو إلى طرح أكثر من سؤال: هل ستصدر الحكومة تقارير دورية عن مدى احترامها لحقوق الإنسان؟ أي أنها ستكون خصما وحكما في نفس الآن، وهي ممارسة غير مسبوقة وال مقبولة دوليا. وفي هذه الحالة ماذا عن المهمة الموكولة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان في هذا الباب والمنصوص عليها بشكل صريح في القانون المنظم له وفي مبادئ باريس؟ وكيف سنفسر هذه الازدواجية وما قد تفرزه من اختلاف في التقييم والتقدير بين مؤسسات الدولة حول حصيلة الأداء؟. إن هذه القضايا والإشكالات تدعو إلى إعادة التفكير في هذا النسيج المؤسساتي وأدوار كل منها، ومتطلبات ضمان النجاعة والتكامل خدمة لأهداف المتوخاة من إحداثها بما يدعم مقومات دولة الحق والقانون والوفاء بالالتزامات الدولية لبلادنا في مجال حقوق الإنسان. ولتحقيق ذلك، هل نحن في حاجة إلى مراجعة القوانين المؤطرة
لها؟ أم أننا في حاجة أيضا إلى رؤية شاملة مؤطرة لسياسة البلاد في مجال حقوق الإنسان، ولأدوار المؤسسات المعنية قصد حماية المكتسب، وفتح أفق جديد للنهوض بأحد أبرز لأوراش التي طبعت الربع قرن الأخير من خلال محطات بارزة لإلصالح في مجالات متعددة، وفي ظرفية إقليمية ودولية ذات خصائص جديدة ودقيقة ؟ تلكم بعض المداخل التي دعت مجلة دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية إلى تخصيص ملف هذا العدد للموضوع. لقد قدم الباحثون والخبراء المساهمون والمساهمات بعض عناصر التفكير في التجربة، والوقوف على عدد من بواعث القلق ومتطلبات التصحيح المأمول قصد التمكن من الارتقاء بالممارسة وترصيد المكتسب وعقلنة الأداء وضمان مصداقية المؤسسات وثقة المرتفقين والشركاء داخليا وخارجيا.
إننا على وعي بأننا لم نلامس كل جوانب الموضوع وكافة المؤسسات، ولكننا نقتحم مجال نعرف أهمية القول الصريح فيه وحساسية ذلك، إلا أننا مقتنعون بكون تطور البناء وتصحيح الخلل يستلزم المرافقة من خلال التقييم والبحث المستمرين كمساهمة في تحصين المكتسب وتحقيق التراكم النوعي المطلوب فكرا وعمال.
Avis
Il n’y a pas encore d’avis.